في لحظة واحدة من هذا اليوم الثلاثاء، تلقّت مدينة غزة حكمًا بالإعدام – ارحلوا وإلا فسوف تُقتلون. فقد وُجِّهت الأوامر إلى مئات الآلاف من المدنيين الذين نال منهم الإنهاك والإرهاق والترويع بالفرار إلى منطقة مكتظة أصلًا إلى حد تُضطر معه حتى الحيوانات الصغيرة للبحث فيها عن موطئ قدم لكي يتيسّر لها أن تتحرك فيها، إذ تؤوي المستشفيات المرضى في ممراتها وشرفاتها، وحيث ما عادت المياه النظيفة والأطعمة المغذية والحياة حقوقًا أساسية، وإنما باتت سلعًا نادرة إلى درجة لا يحلم معظم الناس في الحصول عليها يومًا ما، وذلك لو تسنّت لهم فرصة النجاة من القصف.
فمن الغرب – البحر الذي تحاصره البوارج الحربية الإسرائيلية، وأمواجه المشؤومة التي تبتلع الخيام المهترئة عند ارتفاع المد. ومن الشرق والشمال والجنوب – القوات البرية والدبابات تواصل إحكام قبضتها على المساحات الآخذة في التلاشي، في الوقت الذي تحلق فيه الطائرات المسيّرة والمقاتلات الحربية فوق رؤوس الناس، وصوتها الذي يصمّ الآذان يرسَخ في الذاكرة إلى الأبد – وتبثّ تحذيرًا بأن لا مكان آمنًا.
أرسل إليّ صديق عزيز رسالة نصية أمس يقول فيها: «حاولتُ أن أعثر على مكان لي في الجنوب، ولكن ليس ثمة أي مساحة فيه.» وقد قُتل ابن عمه البالغ من العمر ثمانية أعوام مع عدة أطفال آخرين في غارة إسرائيلية الأسبوع الماضي حينما كانوا ينتظرون خبزهم حتى ينضج. وأتمّت ابنته عامها الثاني للتو – وهي لم تعرف سوى الحرب على مدى سنتي حياتها القصيرة. فعندما تسقط قنبلة في مكان قريب منها، تُهرع لتختبئ تحت مائدة في المطبخ المجتمعي الذي يعمل والدها فيه، حيث يواصل إطعام الآلاف في كل يوم ويوفر الغذاء لأولئك الذين فقدوا كل شيء ويمنحهم بصيصًا من الأمل. إن غزة ليست في حاجة إلى الشفقة. تحتاج غزة إلى إنهاء هذا العنف المروّع.
تفوح رائحة الموت التي لا يخطئها المرء من كل ركن وزاوية – وتنطوي على تذكير مؤلم بأن الأنقاض الممتدة على جوانب الشوارع تخفي تحتها أشلاء أمهات وآباء وأطفال. أناس كانت الضحكات تعلو محيّاهم ويجهشون بالبكاء وتراودهم أحلامهم ذات يوم. لقد حصدت الحرب أرواحهم بآلاتها القاتلة، وكثير منهم لن يُعثر عليهم أبدًا.
في طريق عودتنا إلى غزة أمس، سِرنا في طرق يكاد لا يتسنى سلوكها، والناس يحتشدون حول قافلتنا وقد بدت عليهم أمارات الانكسار ويتوسلون من أجل إنهاء هذا الرعب ووضع حد له. لوّحت فتاة صغيرة كانت تسير إلى جانب والدها بيدها لنا عندما مررنا بها. فهل ستنجو من هذا الجحيم؟ وهل يرى قادة العالم، الذين يملكون القدرة على وقف هذه الحرب، أنها تستحق أن تنعم بالسلام؟ إن حياتها معلّقة بيد أولئك الذين يختارون أن يتحركوا.
تُسلَب كرامة الناس والأمل الذي يحيون به مع كل عزيز على قلوبهم يفقدونه، ومع كل غارة تستهدف شريانًا من شرايين حياة المدنيين، وفي كل مرة يُمنع فيها وصول المساعدات. لقد قُوِّضت الأنظمة التي تشدّ عصب الحياة ودُمرت على نحو ممنهج. يكافح الآباء في سبيل تأمين الحماية لأطفالهم من العنف ومن الجوع ومن الخوف. وتغصّ الشوارع بالأسر التي رحلت عن ديارها، وهي تضم صغارها إلى صدورها، ولا تعرف الوجهة التي تقصدها بعدما بدا أن كل الخيارات التي كانت في متناولها نضبت واستُنفدت. إن السباق مع الزمن، ومع الموت، ومع تفشي المجاعة، يُشعرنا نحن العاملين في المجال الإنساني بأن ما نبذله من جهد ونؤديه من عمل لا طائل منه. وتزداد وطأة المأساة بفعل ما تقوم به السلطات الإسرائيلية من منع القوافل الإنسانية أو تأخيرها أو عوقها مرارًا وتكرارًا.
ومع ذلك، يبزغ نور الإنسانية ويسطع حتى في خضمّ هذه المعاناة. فالأطباء والممرضون والمسعفون الفلسطينيون يعملون على مدار الساعة رغم حرمانهم من أجورهم وافتقارهم إلى الدواء والكهرباء في أغلب أحوالهم. والعاملون في مجال تقديم المعونات من وكالات الأمم المتحدة والهلال الأحمر والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية يواصلون عملهم على إيصال الأغذية والأدوية والمياه النظيفة على الرغم في ظل القصف. والناس العاديون يتقاسمون القليل الذي يملكونه مع من لا يعرفونهم. ففي كل فعل من أفعال الرعاية يكمن رفض يحول بين القسوة وبين أن تصوغ المستقبل وترسمه. وهذا برهان على أن الروح الإنسانية تبقى حيّة حتى في أعتى الظلمات.
كثيرًا ما يُسألني الناس إن كان قد بقي لديّ بصيص من أمل. قد يكون الأمل هو كل ما تبقى لنا، وينبغي لنا أن نتعهده ونرعاه. لا يجوز أن يُخمد الصمت الذي يخلّفه الإرهاق أصوات أولئك الذين يعصف هذا الكابوس بهم. فلا بد أن تُروى حكاياتهم عما كابدوه من الفقدان والصمود الذي عاشوه والأمل الذي لا تنطفئ جذوته في نفوسهم. عندما ترسم طفلة فلسطينية صورة قلب بيديها حينما نلتقي، أو عندما تسمح لي أم أن أحمل طفلها الغالي على قلبها، أو عندما يخبرني جد بأن عملنا الذي ننجزه هنا له أهميته وقيمته، أعلم حينئذ أن الأمل يظل حيًا ويتجدد إلى الأبد.
لكن الأمل وحده لا يكفل بقاء الناس على قيد الحياة. فثمة حاجة إلى اتخاذ قرارات عاجلة يجب أن تمهد الطريق إلى سلام دائم قبل فوات الأوان، وأصوات قادرة على إسكات القنابل، وإجراءات توقف إراقة الدماء، ووقف إطلاق نار فوري ومستدام، وإطلاق سراح جميع الرهائن الذين كابدوا معاناة مروّعة، وجميع المعتقلين تعسفًا كذلك، على الفور ودون قيد أو شرط، وحماية جميع المدنيين أينما وجدوا في غزة، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية دون قيود، بما يشمل وصولها إلى الشمال، وتدفق المساعدات عبر كل المعابر ومن خلال جميع الممرات، وإعمال المساءلة: فقوانين الحرب ليست خيارًا، بل يجب التحقيق في الانتهاكات التي تمسّها ووأدها، من أجل العدالة والحيلولة دون إرساء سابقة خطيرة.
إن الناس غزة لا يسألون إحسانًا، بل يطالبون بحقهم في حياة يحسّون فيها بالأمان وتُصان فيها كرامتهم وينعمون فيها بالسلام. إن إنسانيتنا الجامعة – إنسانيتك وإنسانيتي وإنسانية كل واحد منا – تفرض علينا أن نتحرك الآن.
لن يحكم التاريخ علينا بما نلقيه من خطابات، بل بما نُقْدِم عليه من أفعال. فهل تحرّكتم عندما كانت غزة تحترق وأطفالها يتضورون جوعًا ومستشفياتها تنهار؟
في هذا اليوم، وفي كل يوم، فرصة جديدة متاحة أمام المجتمع الدولي لكي يترجم أقواله إلى أفعال. فلا تضيّعوا هذه الفرصة لأنها قد تكون الأخيرة.
شكرًا لكم