في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم إلى أماكن أخرى، يُقتل الناس في غزة اليوم في أثناء محاولتهم الوصول إلى الغذاء. فمحاولة البقاء على قيد الحياة تُقابَل بحكم بالإعدام.
ومنذ أن رُفع الحصار الكامل جزئيًا – قبل أكثر من شهر بقليل – يتعرّض الناس للقتل على نحو يكاد يكون يوميًا في أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء. وقد قيل لي إن ما يزيد عن 400 شخص قُتلوا. والتقيتُ ببعض المصابين خلال الأيام الماضية وهم على أسرّة مستشفى ناصر وفي ممراته المكتظة.
وغالبية هؤلاء الضحايا إما أُطلقت النار عليهم وإما طالهم القصف في أثناء محاولتهم الوصول إلى مواقع التوزيع الأمريكية-الإسرائيلية التي أُقيمت عمدًا داخل مناطق تتسم بطابع عسكري. ونحن نشهد نمطًا مرعبًا يتمثل في إطلاق النار من جانب القوات الإسرائيلية على الحشود التي تتجمع للحصول على الطعام. وغالبًا ما يكون من يتعرّضون لإطلاق النار خارج نطاق وصول سيارات الإسعاف. وقد أُبلغنا بأنه ثمة أشخاص مفقودون، ويسود الافتراض بأنهم قُتلوا، داخل هذه المناطق التي يغلب الطابع العسكري عليها.
وقُتل آخرون عندما أطلقت القوات الإسرائيلية النار على حشود الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون الحصول على الغذاء على الطرق المؤدية إلى غزة. فقبل أيام قليلة فقط، أطلقت دبابة النار على حشد من الناس وهم ينتظرون وصول الشاحنات المحمّلة بالغذاء، مما أسفر عن مقتل حوالي 60 شخصا وأصابة مئات آخرون.
كما قُتل بعض الأشخاص وأُصيبوا على يد العصابات المسلّحة، بما فيها تلك العصابات التي تنشط في مناطق قريبة من القوات الإسرائيلية.
وغالبًا ما تستهدف القوات الإسرائيلية أولئك الذين يحاولون حماية قوافل المعونات أنفسهم.
ينبغي ألا يكون الوضع على هذا النحو. وينبغي ألا يرتبط الوصول إلى أساسيات الحياة بسقوط الضحايا.
وفي الشهر الماضي، دعا مسؤول الإغاثة في الأمم المتحدة مجلس الأمن إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ترمي إلى الحيلولة دون ارتكاب إبادة جماعية في غزة.
واليوم، ومن غزة، أستطيع القول دون أدنى شك إن ما يُبذل لا يكفي.
فما انفكت حياة الفلسطينيين، وكل ما يضمن استمرارها، يجري تقويضها على نحو منهجي على مرأى من العالم.
لا يوجد ما يكفي من المياه الصالحة للشرب في غزة.
فالآبار نفد منها الوقود أو تقع في مناطق يصعب الوصول إليها. والأنابيب الذي أصابها الضرر تهدر ما تبقى من كميات قليلة من المياه. والأطفال يصطفون في طوابير للحصول على المياه من الشاحنات التي لا تصل في أحيان كثيرة.
وتشهد خدمات الصرف الصحي تدهورًا وتنتشر الأمراض. وتفيض مياه الصرف الصحي في الشوارع.
ومستودعاتنا فارغة في الوقت الذي تقيّد فيه إسرائيل الشحنات لتقتصر على كميات ضئيلة من الإمدادات الطبية والمواد الغذائية بالأساس، والتي لا يُسمح بوصولها إلى المستودعات، ومن ثم إلى الأسر. وتفرّ الأسر النازحة دون أن تحمل معها شيئًا – وليس لدينا ما نقدمه لهم. وباتت غزة برمتها محصورة في نحو 17 في المائة فقط من أراضيها.
والمستشفيات التي تعمل جزئيًا مُثقلة بالأعباء وترزح تحت ضغط هائل. فلا يكاد يمر يوم دون سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. وتتعرّض هذه المستشفيات للاستهداف المباشر وتكبلها أوامر النزوح. وحتى أبسط الإمدادات الأساسية توشك على النفاد منها.
ويجري تقنين الوقود للحيلولة دون توقف الخدمات المنقذة للحياة توقفًا كاملًا. وما لم يُرفع الحصار الشامل عن إدخال الوقود إلى غزة، فسنواجه المزيد من حالات الوفاة العبثية التي يمكن تجنبها.
وحالات المجاعة في تزايُد.
فوفقًا لمنظمة اليونيسف، أُدخل أكثر من 110 أطفال في المتوسط يوميًا إلى المستشفيات منذ بداية سنة 2025 لتلقي العلاج بسبب سوء التغذية.
الناس يائسون. فحشود الجوعى ينتزعون الكميات الأغذية القليلة من الغذاء التي يتسنى لنا إدخالها من مؤخرة الشاحنات، وتستولي عصابات إجرامية عليها أحيانًا.
وتمنعنا السلطات الإسرائيلية من إنجاز عملية التوزيع من خلال الأنظمة التي أنشأناها والتي نعلم أنها فعّالة. ولدينا خطة لذلك. وفي وسعنا أن نصل إلى كل أسرة في غزة – مثلما فعلنا في الماضي – ولكننا نُمنع من ذلك على الدوام.
ومع استمرار العمليات العسكرية من البر والجو، يبقى هناك تجاهل فاضح للقانون الإنساني. فحياة الناس وكرامتهم عرضة للهجوم في كل يوم.
إن كل ما جئت على وصفه يمكن منعه بالكامل. فقد صُممت هذه ظروف لكي تفضي إلى القتل.
إن ما نشهده هو مذبحة.
إنه جوع يُستخدم كما لو كان سلاحًا.
إنه تهجير قسري.
إنه حكم بالإعدام بحق أناس يسعون إلى البقاء على قيد الحياة فحسب.
ويبدو أن هذه العوامل مجتمعة تشكّل عملية لمحو حياة الفلسطينيين من غزة.
إن إسرائيل عليها التزامات واضحة بصفها سلطة قائمة بالاحتلال. وما نشهده لا ينطوي على الوفاء بتلك الالتزامات في أي حال من الأحوال.
علينا إعمال المساءلة عن الجرائم المرتكبة. ولا بد أن نرى ضغوطًا سياسية واقتصادية ملموسة تمارسها الدول من أجل وضع حد لهذا الوضع. ولا بد أن نشهد وقفًا دائمًا لإطلاق النار، بما يتماشى مع قرارات محكمة العدل الدولية.
هذا هو الحد الأدنى. فالتقاعس عن العمل يتيح وقوع الفظائع التي تُقاس بأرواح البشر.
شكرًا لكم.