التعامل مع العنف القائم على النوع الإجتماعي في قطاع غزة

وفقاً لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، بات العنف القائم على النوع الإجتماعي في الأرض الفلسطينية المحتلة يستحوذ على قدر أكبر من الإهتمام خلال السنوات القليلة الماضية. ففي العام 2010، أجرى الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني مسحًا أظهر أن مستويات العنف المنزلي تراجعت في الضفة الغربية بالمقارنة مع ما كانت عليه في العام 2005، غير أنها سجلت إرتفاعًا في قطاع غزة. وكانت الزيادة التي طرأت على العنف القائم على النوع الإجتماعي في القطاع قد أدت إلى الأوضاع الإنسانية التي شهدت تدهورًا في أعقاب الحصار الذي فرضته إسرائيل عليه عقب سيطرة حماس عليه في العام 2007، وإلى الآثار المدمرة التي خلّفتها عملية ’الرصاص المصبوب‘ في شهريّ كانون الأول/ديسمبر 2008 وكانون الثاني/يناير 2009.

وتركّزت التدخلات التي ينفذها المجتمع الدولي بغية مكافحة العنف القائم على النوع الإجتماعي على دعم المنظمات غير الحكومية المحلية. ففي هذا السياق، تقدم 15 منظمة غير حكومية و40 منظمة أهلية محلية الخدمات المتعلقة بالعنف القائم على النوع الإجتماعي في غزة. وتندرج هذه المنظمات، غير مُحكمة التنظيم، ضمن منصتين، هما: إئتلاف الأمل للمنظمات غير الحكومية وشبكة وصال للمنظمات الأهلية. وقد نشأت هذه الهيكلية على نحو عشوائي وهي لا تحظى بالتنسيق، حيث تعكس الأولويات السياسية والبرامجية لدى المانحين الدوليين وتقدم الإستجابة المخصصة للإحتياجات المحلية في ظل غياب إستراتيجية شاملة. ومما زاد الوضع تعقيدًا الإنقسام الداخلي القائم بين الضفة الغربية وغزة، وغياب التنسيق الإستراتيجي الداخلي بين المنظمات غير الحكومية نفسها في غزة. ومنذ تشكيل اللجنة الوطنية الفلسطينية لمناهضة العنف ضد المرأة في العام 2008، وما تلاها من إعتماد الإستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضد المرأة من جانب اللجنة الوزارية في السلطة الفلسطينية في العام 2011، بات يتعين على المبادرات التي يطلقها المانحون لمناهضة العنف ضد المرأة في الضفة الغربية أن تتواءم مع الأولويات الوطنية الفلسطينية، وهو ما ليس عليه الحال في غزة.[1]

ورشة عمل تعقدها منظمة غير حكومية محلية في غزة حول العنف القائم على النوع الإجتماعي، 2017  © - تصوير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)

ويُعَدّ تعميم مراعاة المنظور القائم على النوع الإجتماعي أولويةً من أولويات خطة الإستجابة الإنسانية للأعوام 2018-2020، والتي أعدها مجتمع العمل الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة.[2] ومن المقرر أن تتجسّد هذه الأولوية في طريقة تقديم المساعدات الإنسانية للأسر، ومن خلال أشكال الإستجابة التي تتعامل مع مواطن الضعف القائمة على أساس نوع الجنس على وجه الخصوص، ومعايير إستحقاق المساعدات التي لا تميز ضد النساء اللواتي قد لا يمتلكن القدرة على الحصول عليها بخلاف ذلك، ومتابعة المستفيدين من المساعدات الإنسانية حسب النوع الإجتماعي، عند الحاجة.

تقرير جديد يبيّن أن الفقر يُعَدّ عاملًا مركزيًا في العنف القائم على النوع الإجتماعي في غزة

نشرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة، في شهر كانون الأول/ديسمبر 2017، تقريرًا حول الخدمات المرتبطة بالعنف القائم على النوع الإجتماعي في غزة، بناءً على البحث الذي أجريَ على مدى ثمانية أشهر خلال العامين 2016 و2017. ويستعرض هذا التقرير ما يتوفر في غزة من أشكال الإستجابة متعددة القطاعات للعنف القائم على النوع الإجتماعي، والتوزيع الجغرافي لهذه الخدمات والتحديات التي تواجه المنظمات التي تقدم الإستجابة للعنف القائم على النوع الإجتماعي. وكان الهدف النهائي لهذا البحث يكمن في الكشف عن الآليات التي تسعى النساء من خلالها إلى إيجاد حلول للأوضاع التي يتعرضن فيها لسوء المعاملة وتحديد الأدوار التي يضطلع بها مقدمو الخدمات الأساسية في دعمهن.

وتؤكد الإستنتاجات التي خلص إليها التقرير على أن الفقر وغياب الفرص الإقتصادية المتاحة لأرباب الأسر وأسرهم تشكّل عوامل مركزية تقف وراء إستشراء العنف القائم على النوع الإجتماعي في غزة. ويرتبط الفقر كذلك بالمشكلة الحرجة التي تفرزها الأسر التي تتسم بالإزدحام المفرط، حيث أشارت النساء الناجيات من هذا العنف إلى أن السكن مع الأسر الكبيرة لأزواجهن غالبًا ما يتسبب في تفاقم حالات سوء المعاملة التي يتعرضن لها. ومن جملة العوامل التي تيسّر إستمرار الأوضاع التي تتعرض فيها النساء لسوء المعاملة أن الجناة نادرًا ما يخضعون للعقوبات القانونية أو الجنائية أو الإجتماعية المترتبة على سلوكهم، وأن العنف الواقع على المرأة في سياق الزواج لا يُعَدّ جريمة بموجب القانون المدني وقانون حقوق العائلة الساري في غزة، وأن الأعراف الإجتماعية السائدة تضع الأولوية للمحافظة على الزواج بصرف النظر عن الثمن الذي يدفعه ضحاياه.

ويخرج التقرير بتوصيات للتعامل مع غياب إستراتيجية شاملة تتكفل بمعالجة العنف القائم على النوع الإجتماعي في غزة. ومن جملة المشاكل المرتبطة بهذا الجانب الغياب الكلي للتدريب الرسمي في مجال التوعية بالعنف القائم على النوع الإجتماعي ، والإفتقار إلى تطوير القدرات المهنية في مجال إعداد بروتوكولات الرعاية وأنظمتها، وتوفير الحماية والعدالة للناجيات من العنف القائم على النوع الإجتماعي في جميع القطاعات التي تغطيها الحكومة في عملها، والفجوات التي تشوب الخدمات المرتبطة بذلك النوع من العنف والتي تقدمها المنظمات غير الحكومية. ويقترح التقرير منح قدر أكبر من التركيز على إعداد البرامج التي تُعنى بدعم المشاريع التي تدرّ الدخل على ضحايا العنف القائم على النوع الإجتماعي، كما يدعو الجهات المانحة إلى مراجعة توازن الدعم الذي تقدمه، بحيث يشمل هذا النوع من العنف في جميع القطاعات.

دعم التمويل المخصص للناجيات من العنف القائم على النوع الإجتماعي

قدّم صندوق التبرعات الإنساني للأرض الفلسطينية المحتلة، خلال العام 2017، تمويلاً لثلاثة مشاريع تستهدف الناجيات من العنف القائم على النوع الإجتماعي في المناطق القريبة من السياج الحدودي في قطاع غزة وفي بعض مخيمات اللاجئين. وقد نفّذت منظمات غير حكومية محلية (وأنجزت) مشروعين من هذه المشاريع، وتولّت منظمة غير حكومية دولية تعمل في غزة تنفيذ المشروع الثالث (حيث ما يزال العمل جاريًا على إنجازه). وقد يسّرت هذه المشاريع، التي إستهدفت التخفيف من معاناة الناجيات من العنف القائم على النوع الإجتماعي الذي سببته عدة أحداث خلّفت صدمات نفسية لديهن خلال الصراع الأخير الذي إندلع في العام 2014، والحصار الذي طال أمده على غزة والوضع الإجتماعي والإقتصادي المتردي والعنف المنزلي، لهؤلاء النسوة الوصول إلى مرافق وخدمات متخصصة. وقدمت هذه المشاريع، حتى الآن، الدعم لما يقرب من 12,800 شخص، 77 في المائة منهم نساء، ولا سيما ربّات الأسر والمعوقات والمهجَّرات وغيرهن من ضحايا العنف القائم على النوع الإجتماعي.

دراسة حالة: إحساس جديد بمعنى الحياة وإحترام الذّات والأمل

ميساء إمرأة متزوجة، وتبلغ 37 عامًا من عمرها وأم لأطفال تتراوح أعمارهم من عامين إلى 15 عامًا. تزوجت ميساء وعمرها 20 عامًا من رجل لا يمتّ لها بصلة قرابة، حيث إختارته هي بدلًا من أن تتزوج من إبن عم لها حسب الطرق التقليدية في الزواج. ولم تكتشف ميساء أن زوجها كان مريضًا عقليًا ويتلقى العلاج من عيادة الصحة النفسية الحكومية إلاّ بعد أن إقترنت به. وكانت تسكن مع أسرة زوجها الكبيرة في غرفة واحدة وتعتمد على المساعدات الإجتماعية بصورة رئيسية.

وقد إعتدى زوجها عليها بمفكّ في غضون أسبوع واحد من زواجهما. وفي الوقت الذي إستمرت فيه حلقات إساءة المعاملة التي إتسمت بالعنف المفرط، والتي أدّت إحداها إلى الإجهاض، خلال سنوات زواجهما، كانت المشكلة المباشرة بالنسبة لميساء تتمثل في سوء المعاملة المترتبة على سكنها مع أسرة زوجها، حيث كانت تعاملها كما لو كانت خادمة وتوجّه الإنتقادات لها على الدوام، دون أن تقدم لها الدعم أو الحماية من زوجها الذي كان يسيء معاملتها. وكانت ميساء تعتقد أنه كان في إمكانها أن تتعامل مع إساءة معاملة زوجها وما تخلّفه من آثار عليها وعلى أطفالها على نحو أفضل لو كانت أسرتها مستقلة في حياتها.

وخلال الأعمال القتالية التي شهدها العام 2014، إنتقلت ميساء وعائلتها من منزل أسرة زوجها بعدما أقدم أخوه على ضرب أحد أبنائها بعنف. ولم يكن في وسع ميساء، التي لم تزل تعتمد على المساعدات الإجتماعية، إلاّ أن تنتقل مع أفراد عائلتها العشرة، بمن فيهم زوجها، إلى غرفة تخزين تتبع متجرًا، حيث إستأجرتها من أحد أقارب زوجها. وكان السبب الوحيد الذي حال بينها وبين طلب الطلاق يكمن في خوفها من فقدان أطفالها وتركهم لزوجها الذي يسيء معاملتهم ولأسرته.

وحالما سكنت العائلة وحدها، كان المدخل الذي يسّر لميساء أن تحصل على المساعدة الرسمية في مجال العنف القائم على النوع الإجتماعي من خلال سعيها للحصول على المساعدات الإنسانية من مؤسسة خيرية محلية. فبعد إندلاع الأعمال القتالية في العام 2014، ذهبت ميساء وشقيقتها إلى فعالية نفسية نظمتها منظمة أهلية في التجمع السكاني الذي كانتا تقطنان فيه. وخلصت المستشارة النفسية إلى أن ميساء كانت تعاني من سوء المعاملة وأوصلتها إلى منظمة تقدم الدعم لضحايا العنف القائم على النوع الإجتماعي وللناجيات منه.

وتصف ميساء الدعم والعلاج الذي تلقّته من هذه المنظمة بأنه أنقذ حياتها بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك بالنظر إلى أنها فكرت بالإنتحار في مناسبات عديدة. ووصفت ميساء تفاعل طاقم المنظمة معها على أنه "يوليها الرعاية‘ ويُشعرها بـ"الأمان". وعندما سُؤلت عن المساعدة المحددة التي حصلت عليها، شددت ميساء على دعم سبل العيش، بما شمله من تقديم المساعدة النقدية، والتدريب على إنتاج الحرف اليدوية ومهارات إدارة المشاريع الصغيرة. كما شددت ميساء على مساعدة المأوى، التي يسرت لعائلتها بناء منزل صغير وساعدتها في إحدى المرات على تغطية تكاليف علاج زوجها. وشددت ميساء على الأثر الإيجابي للدعم النفسي الذي تلقته، والذي تضمن: الجلسات الإستشارية الجماعية، والزيارات المنزلية، والجلسات الإستشارية الفردية، والآثار العلاجية العامة التي أفرزها العمل على إنتاج الحرف اليدوية. وبينت ميساء أن حصولها على هذا الدعم أحيا إحساسها بمعنى الحياة، وعزز إحترامها لذاتها وبثّ الأمل في نفسها.


[1] UN Women (2017), Navigating Through Shattered Paths: NGO Service Providers and Women Survivors of Gender-based Violence: An Assessment of GBV Services in Gaza, pp. 7-8.

[2] أنظر: https://www.ochaopt.org/content/gender-analysis-and-priority-gender-needsoccupied-palestinian-territory