إيمان شنّن

#WOMENHUMANITARIANS | 19 آب / أغسطس

الأرض الفلسطينية المحتلة

عندما كنت طفلة في الصف الثاني، تُوفيت إحدى بنات صفي. وعندما سألنا معلّمتنا، التي كانت تجهش بالبكاء، عن سبب وفاتها، قالت: "من السرطان". لم نكن ندرك ما يعنيه السرطان. ولذلك، حاولت معلمتنا أن تساعدنا على استيعابه بقولها إنه كان كما لو كانت صديقتنا قد تناولت سمّ الفئران. ولكن بعد أن كبرنا، علِمنا أن السرطان ليس بسم فئران، وإنما كان نوعًا آخر من أنواع الموت البطيء. 

وعندما بلغتُ الثامنة والعشرين من عمري، شُخِّصتْ حالتي وتبيَّن أنني كنتُ مصابة بسرطان الثدي. ولم يكن أمامي من خيار سوى أن أقاوم، فقد كنت أمًا لطفلين، أكبرهما لم يتجاوز الرابعة من عمره. وقد اعتمدتُ على زوجي الذي أمدّني بالدعم، وأمي التي شكّلت مصدر إلهام لي وأبي الذي شحذني بالقوة لكي أستهلّ رحلة العلاج المضنية التي استغرقت ستة أعوام، إلى أن غدوتُ ناجية من السرطان وتعافيتً منه. كما كان يتعين عليّ أن أتحدى عادات مجتمعي الذي يقوّض رفاه مرضى السرطان في أحوال كثيرة. 

والتقيتُ بنساء مدهشات كُنّ يقاومْن السرطان أيضًا. أميرة، وغادة، ونهى، وأمل، وهيا، وصفاء، وهناء، وتغريد، وشفا وآمنة. ومضيْنا كلنا في هذه الرحلة معًا. كان مبضع الجرّاح هو ما يوحّدنا. واتفقتُ معهن على البقاء والمقاومة. فمعًا، نستطيع أن نقهر السرطان. 

ولكن كان يصعب عليّ أن أشاهدهن وهن يتغيرن. فقد سقط شعرهن، وبات لون وجوههن شاحبًا، وغدت أجسادهن هزيلة ونحيلة. وغالبًا ما كنا نُضطر، بسبب الوضع السائد في غزة، إلى مغادرتها من أجل الحصول على العلاج، الذي لم يكن يسيرًا. وكنتُ أسافر إلى مصر عبر معبر رفح الخاضع للسيطرة المصرية لكي أتلقّى علاجي، ولكن الرحلة كانت طويلة جدًا ومرهِقة للغاية بالنسبة لمريضة بالسرطان. وفي ذلك الوقت، كنت أتكفّل أنا بتغطية نفقات علاجي التي كانت باهظة، حسبما كنتُ أعلم من قبل. حتى إنني اضطُررت إلى بيع منزلي في العام 2000 لكي يتسنّى لي أن أغطّي مصاريف علاجي. 

وفي أغلب الأحيان، لم يكن القطاع الصحي يولي الأولوية لعلاج مرضى السرطان، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالحصول على التصاريح لغايات العلاج خارج غزة والسفر عبر معبر إيرز الخاضع للسيطرة الإسرائيلية. وقدمتُ العديد من طلبات التصاريح لكي أسافر عبر معبر إيرز، ولكن لم أحصل على أيّ منها. ورُفض عدد كبير من هذه الطلبات أو ظلت قيد الانتظار. 

كنّا نضحك معًا على الرغم من الألم الذي سبّبه البُعد عن منازلنا وعائلاتنا وأطفالنا على مدى أيام وشهور. وقد فقدنا أعضاءً عزيزة من أجسامنا، ولكننا لم نفقد الأمل مطلقًا، ولو لحظة واحدة. وحاربنا أولئك الذين رفضوا مساندتنا، والذين بدا أنهم يريدون أن يروننا مهزومات. كنّا ننشر الحب ونبثّ الحياة والقوة على طول دربنا.  

وكنتُ أضطر، في بعض الأحيان، إلى الاعتماد على الأدوية والعلاج الذي تؤمّنه وزارة الصحة في غزة، لأنه لم يكن في وسعي أن أحصل على الدواء بنفسي، أو أن أحصل على العلاج الذي كنت في حاجة إليه خارج غزة. وكان أكثر ما أكرهه، وأرفضه رفضًا مطلقًا، ربط السرطان بالموت، كما لو لم تكن النجاة منه خيارًا قائمًا. وقد تضررتْ علاقاتي الاجتماعية، حيث كان بعض الأشخاص يريدون أن يروْني ضحية أو حالة تثير شفقتهم، وهو ما كنت أرفضه. 

وخلال رحلتي، كنت أحسّ بالكفاح الذي تخوضه المريضات بالسرطان والمعاناة التي يتكبّدنها وأراها بأم عينيّ، ولا سيما أولئك اللواتي كُنّ يعانين من الفقر والضعف ولم ينلن حظّهن من التعليم. وكان عدد ليس بالقليل منهن يفتقرن إلى الدعم النفسي من عائلاتهن. ولم يكن لديهن من المال ما يعينهن على المقاومة. وبعضهن هجرهن أزواجهن. لم يكن يغيب عن بالي كم كنا ضعيفات وكم كنا في حاجة إلى الدعم والمساندة. 

وبعد سنوات، وبعد أن تعافيتُ من السرطان، استعدتُ شغفي بالحياة. وأردتُ أن أقدم للنساء من مثيلاتي أقصى ما في وسعي من مساعدة. وبدعم من مريضات أخريات بالسرطان، واللواتي فقدنا أربعًا منهن، بدأنا التفكير في كيفية مساعدة مريضات السرطان في غزة، من خلال تأمين الأدوية والدعم الذي كنّ في حاجة إليه لكي يتمكّنّ من المقاومة. 

وفي العام 2009، أسّستُ برنامج العون والأمل لرعاية مريضات السرطان. وهذا البرنامج هو أول جمعية في غزة سعت إلى تقديم العون للمريضات بالسرطان، ولا سيما أولئك اللواتي يملكن دخلًا محدودًا أو لا يتيسّر دخل لهنّ، من خلال تيسير علاجهن وسفرهن، وتقديم الدعم النفسي لهن وتعزيز مهاراتهن الحياتية وقدراتهن القيادية. 

وقد تمكنّا، على مدى الأعوام العشرة الماضية، من تقديم خدماتنا لما مجموعه 2,700 مريضة بالسرطان، من قبيل الأدوية التي يصعب الحصول عليها في أحوال كثيرة في غزة، بسبب القيود المفروضة على الاستيراد، والافتقار إلى التمويل وغيره من التحديات. كما قدّمنا لهؤلاء المريضات الدعم النفسي والاجتماعي، والعلاج الطبيعي والأنشطة الترويحية. كان لدينا 50 مريضة عندما افتتحنا البرنامج. أما الآن، وبسبب العدد الهائل للمريضات، فما عاد في مقدورنا أن نقدّم جميع خدماتنا لهن كلهن بسبب شحّ التمويل. 

وعلى الرغم من النجاح الذي حقّقتُه، فقد واجهتُ تحديات جمة، بما فيها الانطباع السلبي السائد في المجتمع اتجاهي كمريضة بسرطان الثدي وناشطة تشجّع النساء على الخضوع لفحوصات الكشف المبكر عن سرطان الثدي. والأدهى والأمرّ أن بعض الجهات الرسمية، التي يُفترض بها أن تدافع عن مصالح المريضات بسرطان الثدي، لم تُبدِ الاستعداد لمساندتي. 

وغالبًا ما يرى الناس أن الحديث عن سرطان الثدي مدعاةً للعيب، أو يفترضون أن المريضات سيقضين نحبهنّ فيه، بصرف النظر عن العلاج الذي يتلقيْنه. ولكنني أحاربُ مع كل من يتعين عليّ أن أمدّه بالدعم والمساندة. وأحارب مع المانحين الدوليين والمحليين لكي أتأكد من أن علاج المريضات بسرطان الثدي يَرِد في أجندة التمويل التي يعتمدونها. 

وعندما شُخِّصت إصابتي بالسرطان، لم يكن طفلايَ يتجاوزان الثالثة والرابعة من عمرهما. وهما اليوم يبلغان 23 و24 عامًا من العمر. كنتُ أحلم في أن أتمكّن من مشاهدتهما وهما يكبران ويتخرجان من الجامعة، وقد حققتُ هذا الحلم. فكلاهما تخرّج من جامعته الآن. وحلمي الآن أن أواصل تقديم العون للمريضات بسرطان الثدي ومساعدتهن على الحصول على الدعم الذي يحتجْن إليه.